فصل: الحديث السَّابِع عشر:

مساءً 10 :5
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
29
الإثنين
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشرح الكبير



.الحديث السَّابِع:

«أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ للْمُغِيرَة- وَقد خطب امْرَأَة: انظرْ إِلَيْهَا؛ فَإِنَّهُ أحْرَى أَن يُؤْدَمَ بَيْنكُمَا».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، وَابْن مَاجَه كَذَلِك، وَالنَّسَائِيّ والدارمي وَقَالا: «أَجْدَر» بدل «أَحْرَى».
قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن.
قلت: وصحَّحه ابْن حبَان؛ فَإِنَّهُ أخرجه فِي صَحِيحه وأخرجه الْحَاكِم من حَدِيث أنس «أَن الْمُغيرَة....» الحَدِيث. ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم. وَكَذَا قَالَ ابْن الْقطَّان فِي كِتَابه أَحْكَام النّظر أَنه حَدِيث صَحِيح. وَقَالَ ابْن الصّلاح: إِسْنَاده ثَابت. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ- وَقد سُئِلَ فِي علله-: مَدَاره عَلَى بكر بن عبد الله الْمُزنِيّ، عَن الْمُغيرَة، فروَى عَن عَاصِم عَنهُ بِهِ، وَرَوَى عَنهُ وَعَن حميد، عَن بكر بِهِ، وَلم يروه كَذَلِك سُوَى قيس بن الرّبيع، وَقيل: عَن عَاصِم عَن أبي عُثْمَان النَّهْدِيّ، عَن الْمُغيرَة. وَهُوَ وهم؛ إِنَّمَا رَوَاهُ عَاصِم عَن بكر، وَقيل: عَن معمر، عَن ثَابت، عَن أنس: «أَن الْمُغيرَة....» رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق كَذَلِك، وَإِنَّمَا رَوَاهُ ثَابت، عَن بكر مُرْسلا، وَرَوَاهُ عبد الرازق أَيْضا، عَن سُفْيَان الثَّوْريّ، عَن حميد، عَن أنس؛ وَإِنَّمَا رَوَاهُ حميد، عَن بكر، قيل للدارقطني: سمع بكرٌ من مُغيرَة؟ قَالَ: نَعَمْ.
فَائِدَة:
قَوْله: «يُؤدم بَيْنكُمَا» بِضَم الْيَاء الْمُثَنَّاة تَحت، ثمَّ همزَة سَاكِنة ثمَّ دَال مُهْملَة مَفْتُوحَة، وَفِي مَعْنَاهُ ثَلَاثَة أَقْوَال:
أَحدهَا: يُجْعل بَيْنكُمَا الْمحبَّة والاتفاق، يُقَال: أَدَم اللَّهُ بَينهمَا؛ أَي: أصلح وَألف وَكَذَلِكَ، أَدَم بَينهمَا فعل وأفعل بِمَعْنى وَاحِد، كَذَا ذكره أهل اللُّغَة، كَمَا نَقله عَنْهُم ابْن الرّفْعَة فِي مطلبه وَجَرَى عَلَيْهِ الرَّافِعِيّ، وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيّ قولا، وَقَالَ: إِنَّه مَأْخُوذ من إدام الطَّعَام؛ لِأَنَّهُ يطيب بِهِ، فَيكون مأخوذًا من الإدام لَا مِنَ الدَّوَام.
ثَانِيهَا: أَنه مَأْخُوذ من الدَّوَام؛ فَيكون قَوْله: «يُؤْدم» أَي يَدُوم، لكنه قدَّم الْوَاو عَلَى الدَّال كَمَا قَالَ فِي ثَمَر الْأَرَاك: «كُلُوا مِنْه الأسودَ؛ فَإِنَّهُ أيطب». بِمَعْنى: أطيب، وَنَقله الْمَاوَرْدِيّ عَن أَصْحَاب الحَدِيث.
ثَالِثهَا: أَنه مَأْخُوذ من وُقُوع الأدمة عَلَى الأدمة، وَهِي: الجِلْدَة الْبَاطِنَة والبشرة الظَّاهِرَة، وَذَلِكَ للْمُبَالَغَة فِي الائتلاف، قَالَه الْغَزالِيّ فِي الْإِحْيَاء.

.الحديث الثَّامِن:

عَن جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «إِذا خطب أحدكُم الْمَرْأَة؛ فَإِن اسْتَطَاعَ أَن ينظر إِلَى مَا يَدعُوهُ إِلَى نِكَاحهَا فليفعلْ. قَالَ: فخطبتُ جَارِيَة، فكنتُ أَتَخَبَّأُ لَهَا، حَتَّى رَأَيْت مِنْهَا مَا دَعَاني إِلَى نِكَاحهَا فتزوجتُها».
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث مُحَمَّد بن إِسْحَاق، عَن دَاوُد بن الْحصين عَن وَاقد بن عبد الرَّحْمَن- يَعْنِي: ابْن سعد بن معَاذ- عَن جَابر مَرْفُوعا كَذَلِك سَوَاء.
وَرَوَاهُ أَحْمد كَذَلِك أَيْضا لكنه قَالَ: «جَارِيَة من بني سَلمَة» وَقَالَ: «حَتَّى نظرتُ مِنْهَا بعض مَا دَعَاني...» إِلَى آخِرِه.
وَرَوَاهُ الْبَزَّار أَيْضا فِي مُسْنده ثمَّ قَالَ: وَهَذَا لَا نعلمهُ يُرْوى عَن جَابر إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْه، وَلَا أسْند واقدُ بْنُ عبد الرَّحْمَن بن سعد، عَن جابرٍِ إِلَّا هَذَا الحَدِيث، وَأعله ابْن الْقطَّان بِوَاقِدِ هَذَا وَقَالَ: إِنَّه لَا يُعْرف حالُه؛ إِنَّمَا الْمَعْرُوف وَاقد بن عَمرو بن سعد بن معَاذ أَبُو عبد الله الأنصاريّ مدنى ثِقَة، قَالَه أَبُو زرْعَة، فَأَما هَذَا فَلَا أعرفهُ. وَقَالَ فِي كِتَابه أَحْكَام النّظر: إِنَّه حَدِيث لَا يَصح، وَأما الْحَاكِم فَأخْرجهُ فِي مُسْتَدْركه عَلَى الصَّحِيحَيْنِ بِلَفْظ أبي دَاوُد، وَسَنَده إلاّ أَنه قَالَ: وَاقد بن عَمْرو بن سعد بن معَاذ بدل وَاقد بن عبد الرَّحْمَن ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم؛ أيْ: لِأَن فِي إِسْنَاده ابْن إِسْحَاق، لكنه قد عنعن، وَطَرِيقَة الْحَاكِم هَذِه صَحِيحه عَلَى رَأْي ابْن الْقطَّان، كَمَا عَرفته فِي وَاقد السالف، وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ وَاقد بن عَمْرو، وَكَذَا وَقع فِي مُسْند عبد الرازق أَيْضا عَلَى أَن ابْن حبَان ذكر فِي الثِّقَات وَاقد بن عبد الرَّحْمَن.

.الحديث التَّاسِع:

«أَنه صلّى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث أم سليم إِلَى امْرَأَة وَقَالَ: انظري إِلَى عرقوبيها وشمي معاطفها».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ أَحْمد فِي مُسْنده عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور ثَنَا عمَارَة، عَن ثَابت، عَن أنس «أَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم أرسل أم سليم تنظر إِلَى جَارِيَة فَقَالَ: شمي عوارضها، وانظري إِلَى عرقوبيها».
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي أكبر معاجمه من حَدِيث عبد الله بن مُحَمَّد الْهُذلِيّ، أَنا ثَابت الْبنانِيّ، عَن أنس بن مَالك قَالَ: «كَانَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أَرَادَ خطْبَة امْرَأَة بعث أم سليم إِلَيْهَا فشمّت أعطافها. وَنظرت إِلَى عراقيبها».
رَوَاهُ الْحَاكِم فِي مُسْتَدْركه من حَدِيث مُوسَى بن إِسْمَاعِيل، ثَنَا حَمَّاد بن سَلمَة، عَن ثَابت، عَن أنس «أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرَادَ أَن يتَزَوَّج امْرَأَة، فَبعث امْرَأَة لتنظر إِلَيْهَا فَقَالَ: شمي عوارضها، وانظري إِلَى عرقوبيها قَالَ: فَجَاءَت إِلَيْهِم، فَقَالُوا: أَلا نغديك يَا أم فلَان؟ فَقَالَت: لَا آكل إِلَّا من طَعَام جَاءَت بِهِ فُلَانَة. قَالَ: فَصَعدت فِي رقٍ لَهُم فَنَظَرت إِلَى عرقوبيها، ثمَّ قَالَت: أفليني يَا بنيه. قَالَ: فَجعلت تفليها وَهِي تشم عوارضها. قَالَ. فَجَاءَت فَأخْبرت» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم. وَهُوَ كَمَا قَالَ.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه: كَذَا رَوَاهُ شَيخنَا الْحَاكِم فِي الْمُسْتَدْرك.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي مراسيله عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل مُرْسلا مُخْتَصرا، دون ذكر أنس، قَالَ: وَرَوَاهُ أَيْضا أَبُو النُّعْمَان، عَن حَمَّاد مُرْسلا.
وَرَوَاهُ مُحَمَّد بن كثير الصَّنْعَانِيّ عَن حَمَّاد مَوْصُولا، وَرَوَاهُ عمَارَة بن زَاذَان، عَن ثَابت، عَن أنس مَوْصُولا.
قلت: وَعمارَة هَذَا لم يخرج لَهُ فِي الصَّحِيح؛ نعم أخرج لَهُ ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان فِي صَحِيحَيْهِمَا وَالْحَاكِم فِي مُسْتَدْركه وَقَالَ يزِيد بن هَارُون: رُبمَا يضطرب فِي حَدِيثه: وَقَالَ الْأَثْرَم عَن الإِمَام أَحْمد: يروي عَن أنس أَحَادِيث مَنَاكِير. وَقَالَ ابْن معِين: صَالح. وَقَالَ مُسلم، عَن الإِمَام أَحْمد: شيخ ثِقَة مَا بِهِ بَأْس. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: يكْتب حَدِيثه، وَلَا يحْتَج بِهِ، لَيْسَ بالمتين. وَقَالَ ابْن عدي: هُوَ عِنْدِي لَا بَأْس بِهِ، مِمَّن يكْتب حَدِيثه.
وَقَالَ الْعجلِيّ: ثِقَة. وَقَالَ مهنا: سَأَلت أَحْمد عَنهُ، فَقَالَ صَالح؛ إِلَّا أَنه يروي حَدِيثا مُنْكرا يحدث عَن ثَابت، عَن أنس «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أرسل أم سليم إِلَى امْرَأَة، فَقَالَ: شمي عوارضها وانظري إِلَى عرقوبيْها».
قلت لَهُ: هَذَا غَرِيب، قَالَ: فَلذَلِك صَار مُنْكرا.
وأمّا ابْن القطّان فَقَالَ فِي كِتَابه أَحْكَام النّظر من طَرِيق عمَارَة: إِنَّه حَدِيث حسن عِنْد الْمُحدثين.
فَائِدَة:
مَا وَقع فِي رِوَايَة الإِمَام الرَّافِعِيّ لهَذَا الحَدِيث من تَسْمِيَة الْمَرْأَة: أم سليم، وَوَقع كَذَلِك فِي تَعْلِيق القَاضِي الْحُسَيْن، وَقد أسلفنا ذَلِك عَن رِوَايَة أَحْمد وَغَيره، وَفِي رِوَايَة أَنَّهَا «أم عَطِيَّة» وَهُوَ غَرِيب.
فَائِدَة أُخْرَى:
أَرَادَ عَلَيْهِ السَّلَام بِالنّظرِ إِلَى عرقوبيها حَتَّى تكون ممتلئة السَّاقَيْن، وَأَرَادَ بالمعاطن: الْإِبِط والفم، وَمَا شابههما، قَالَه القَاضِي حُسَيْن.

.الحديث العَاشِر:

عَن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم أَتَى فَاطِمَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها بعبدٍ قد وهبه لَهَا وَعَلَى فَاطِمَة ثوبٌ إذَا قَنّعت بِهِ رَأسهَا لم يبلغ رِجْلَيْهَا، وَإِذا غطّت بِهِ رِجْلَيْهَا لم يبلغ رَأسهَا، فَلَمَّا رَأَى رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا تلقى قَالَ: إِنَّه لَيْسَ عَلَيْك بَأْس؛ إِنَّمَا هُوَ أَبوك وغلامك».
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن مُحَمَّد بن عِيسَى، ثَنَا أَبُو جَمِيع سَالم بن دِينَار، عَن ثَابت، عَن أنس «أَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم أَتَى فَاطِمَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها بعبدٍ...» فَذكره بِهِ سَوَاء.
وَهَذَا إِسْنَاد جيد، وَسَالم وَثَّقَهُ يَحْيَى بن معِين، وَلينه أَبُو زرْعَة، وَقد تَابعه سَلام بن أبي الصَّهْبَاء، عَن ثَابت لَا جرم، قَالَ الْحَافِظ ضِيَاء الدَّين فِي أَحْكَامه: لَا أعلم بِإِسْنَادِهِ بَأْسا. وَقَالَ ابْن الْقطَّان فِي كِتَابه أَحْكَام النّظر: لَا يبالى بقول أبي زرْعَة- يَعْنِي: السالف- فَإِن الْعُدُول متفاوتون فِي الْحِفْظ بعد تَحْصِيل رُتْبَة الْعَدَالَة، والْحَدِيث صَحِيح.

.الحديث الحَادِي عشر:

رُوِيَ «أَن وَفْدًا قدمُوا عَلَىَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَعَهُمْ غُلَام حسن الْوَجْه فأجلسه من وَرَائه، وَقَالَ: إِنَّمَا أخْشَى مَا أصَاب أخي دَاوُد».
هَذَا الحَدِيث تبع فِي إِيرَاده: القَاضِي الْحُسَيْن وَالْإِمَام، وَقَالَ ابْن الصّلاح: إِنَّه ضَعِيف لَا أصل لَهُ. وَلم يعزه لأحد.
وَقد رَوَاهُ أَبُو حَفْص بن شاهين بِإِسْنَاد مَجْهُول إِلَى أبي أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة، عَن مجَالد، عَن الشّعبِيّ قَالَ: «قدم وفْدُ عبد الْقَيْس عَلَى رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِيهِمْ غُلَام أَمْرَد ظَاهر الْوَضَاءَة، فأجلسه النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم وَرَاء ظَهره، وَقَالَ: كَانَ خَطِيئَة دَاوُد النّظر».
قَالَ ابْن الْقطَّان فِي كِتَابه أَحْكَام النّظر: هَذَا حَدِيث ضَعِيف؛ فَإِن من دون أبي أُسَامَة لَا يعرف، ومجالد ضَعِيف، وَهُوَ مَعَ ذَلِك مُرْسل.
قلت: وَأخرجه ابْن نَاصِر من هَذَا الطَّرِيق، قَالَ: «كَانَت خطية من مَضَى النّظر» بدل مَا سلف، وَعقد البيهقى فِي سنَنه بَابا فِيمَا جَاءَ فِي النّظر إِلَى الْأَمْرَد بالشهوة، ثمَّ اسْتدلَّ بقوله تَعَالَى {قل للْمُؤْمِنين يغضوا من أَبْصَارهم} ثمَّ رَوَى من حَدِيث أبي هُرَيْرَة «نهَى رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يحدَّ الرجل النّظر إِلَى الْغُلَام الْأَمْرَد» وَفِي لفظ لَهُ: «لاَ تملُّوا أَعْيُنكم من أَبنَاء الأَغْنِيَاء؛ فَإِن لَهُم فتْنَة أَشد من فتْنَة العذارى» ثمَّ ضعفهما، وَقَالَ: وَفِيمَا ذكرنَا من الْآيَة غنية عَن غَيرهَا، وفتنة ظَاهِرَة لَا تحْتَاج إِلَى خبر يبينها.

.الحديث الثَّانِي عشر:

عَن أم سَلمَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أَنَّهَا قَالَت: «كنت مَعَ مَيْمُونَة عِنْد النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ أقبل ابْن أم مَكْتُوم، فَقَالَ النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: احتجبا مِنْهُ. فَقلت: يَا رَسُول الله، أَلَيْسَ هُوَ أَعْمَى لَا يُبصرنَا؟! قَالَ: أفعمياوان أَنْتُمَا، ألستما تبصرانه؟!».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور: أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيّ وَقَالَ: حسن صَحِيح. وَصَححهُ ابْن حبَان أَيْضا، وَفِي سَنَده: نَبهَان المَخْزُومِي كاتبُ أم سَلمَة، وَهُوَ رَاوِي الحَدِيث عَنْهَا، رَوَى عَنهُ الزُّهْرِيّ، وَمُحَمّد بن عبد الرَّحْمَن مولَى أبي طَلْحَة، ذكره ابْن حبَان فِي ثقاته وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه فِي أَبْوَاب الْمكَاتب: صاحبا الصَّحِيح لم يخرجَاهُ عَنهُ. فَكَأَنَّهُ لم تثبت عَدَالَته عِنْدهمَا إِذْ لم يخرج من الْجَهَالَة بِرِوَايَة عدل عَنهُ.
قلت: قد رَوَى عَنهُ اثْنَان كَمَا تقدم، وَقَالَ ابْن عبد الْبر فِي التَّمْهِيد حَدِيث فَاطِمَة بنت قيس- يَعْنِي: الْآتِي- فِي بَاب النَّهْي عَن الْخطْبَة عَلَى الْخطْبَة، دَلِيل عَلَى جَوَاز نظر الْمَرْأَة للأعمى وَكَونهَا مَعَه فِي بَيت وَإِن لم تكن ذَات محرم مِنْهُ؛ فَإِن فِيهِ أمرهَا بالابتدال إِلَى بَيت أم مَكْتُوم. وَقَوله: «فَإِنَّهُ أَعْمَى تَضَعِينَ ثِيَابك عِنْده لم ير شَيْئا» فَفِيهِ مَا يرد حَدِيث نَبْهان هَذَا قَالَ: وَمن قَالَ بِحَدِيث فَاطِمَة احْتج بِصِحَّتِهِ، وَأَنه لَا مَطعن لأحدٍ فِيهِ، وَأَن نَبْهان لَيْسَ مِمَّن يحْتَج بحَديثه. وَزعم أَنه لم يرو إلاّ حديثين منكرين: أَحدهمَا هَذَا وَالْآخر عَن أم سَلمَة «فِي الْمكَاتب إِذا كَانَ عِنْده مَا يُؤَدِّي فِي كِتَابَته، احْتَجَبت مِنْهُ سيدته».
قلت: وَقَالَ أَبُو دَاوُد: هَذَا لِأَزْوَاج النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم خاصّةً، بِدَلِيل حَدِيث فَاطِمَة السالف.

.الحديث الثَّالِث عشر:

رُوِيَ أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «النّظر فِي الْفرج يُورث الطمس».
هَذَا الحَدِيث يُروى من طَرِيق ابْن عَبَّاس وَأبي هُرَيْرَة، وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة واهٍ، وَحَدِيث ابْن عَبَّاس: قيل إِنَّه جيد، وَقيل إِنَّه مَوْضُوع.
وَقد أوضحت الْكَلَام عَلَيْهِمَا فِي تخريجي لأحاديث الْمُهَذّب فَرَاجعه مِنْهُ تَجِد فِيهِ نفائس.
وذكرته من طَرِيق ثَالِث أَيْضا، وَهُوَ مَوْضُوع وَلم أر فِيهِ لَفْظَة: «الطمس» وَإِنَّمَا فِيهِ: «الْعَمى» وَهُوَ هُوَ كَمَا فَسَّرَهُ الرَّافِعيُّ وَغَيْرُه بِهِ.
والعَشَى أَيْضا، كَذَا رَأَيْته فِي رِوَايَة ابْن طَاهِر فِي التَّذْكِرَة وَلَفظه: «إِذا جَامع الرجل زوجتهُ أَو خادمته فَلَا ينظر إِلَى فرجهَا؛ فَإِن ذَلِك يُورث العشى».
فَائِدَة: الطمس- بِفَتْح الْمِيم وسكونها-: العَمَى كَمَا سلف، قَالَ تَعَالَى {لطمسنا عَلَى أَعينهم} وَأَصله استئصال أثر الشَّيْء.
فَائِدَة ثَانِيَة: هَذَا الطمس قيل: فِي النَّاظر، وَقيل: فِي الْوَلَد الَّذِي يَأْتِي، وَقيل: فِي الْقلب. وَصَححهُ الحبلي من الْفُقَهَاء.
فَائِدَة ثَالِثَة: ذكر صَاحب الْهِدَايَة من الْحَنَفِيَّة أَن النّظر إِلَى الْعَوْرَة يُورث النسْيَان، قَالَ: لوُرُود ذَلِك فِي الْأَثر، وَهَذَا لم أَقف عَلَيْهِ؛ فليبحث عَنهُ.

.الحديث الرَّابِع عشر:

عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «إِذا زوج أحدكُم عَبده جَارِيَته أَو أجيره؛ فَلَا ينظر إِلَى مَا بَين السُّرَّة وَالركبَة».
هَذَا الحَدِيث تقدم بَيَانه وَاضحا فِي شُرُوط الصَّلَاة؛ فَرَاجعه مِنْهُ.

.الحديث الخَامِس عشر:

أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «لَا يُفْضِي الرجل إِلَى الرجل فِي الثَّوْب الْوَاحِد، وَلَا تُفْضِي الْمَرْأَة إِلَى الْمَرْأَة فِي الثَّوْب الْوَاحِد».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسلم فِي صَحِيحه بِهَذَا اللَّفْظ من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وَزَاد فِي أَوله: «لَا ينظر الرجل إِلَى عَورَة الرجل، وَلَا الْمَرْأَة إِلَى عَورَة الْمَرْأَة».
وَله طَرِيق آخر من حَدِيث جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه رَوَاهُ أَحْمد فِي مُسْنده من حَدِيث أبي الزِّنَاد، عَن مُوسَى بن عقبَة، عَن أبي الزبير، عَن جَابر مَرْفُوعا بِمثلِهِ سَوَاء إِلَّا أَنه قَالَ: «لَا يُبَاشر» بَدل «لَا يُفْضِي» وَلم يذكر الزِّيَادَة الْمُتَقَدّمَة فِي أَوله.
وَرَوَاهُ الْحَاكِم أَيْضا فِي مُسْتَدْركه كَذَلِك، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم.
وَله طَرِيق ثَالِث من حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه رَوَاهُ أَحْمد أَيْضا فِي مُسْنده وَابْن حبَان فِي صَحِيحه من حَدِيث إِسْرَائِيل، عَن سماك، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا: «لَا يُبَاشر الرجل الرجل، وَلَا الْمَرْأَة الْمَرْأَة» وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي مُسْتَدْركه من حَدِيث ابْن إِسْحَاق، عَن عِكْرِمَة بِهِ، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ؛ فقد اجْتمعَا عَلَى صِحَة الحَدِيث. كَذَا قَالَ.
وَله طَرِيق رَابِع من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه رَوَاهُ ابْن حبَان فِي صَحِيحه بِلَفْظ: «لَا تباشر الْمَرْأَة الْمَرْأَة، وَلَا الرجل الرجل، إِلَّا الْوَالِد لوَلَده».
تَنْبِيه: هَذَا الحَدِيث اسْتدلَّ بِهِ الرَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَن يضاجع الرجل الرجل وَلَا الْمَرْأَة الْمَرْأَة، وَإِن كَانَ كل واحدٍ فِي جَانب من الْفراش، وَلَعَلَّ مُرَاده مَا إِذا كَانَا مجردين فيطابق دلَالَة الحَدِيث؛ فَإِن الْإِفْضَاء إِنَّمَا يكون بِغَيْر حَائِل، فَلَو ورد الحَدِيث بِالنَّهْي عَن المضاجعة لنهض دَعْوَاهُ، وأنى لَهُ ذَلِك؟!

.الحديث السَّادِس عشر:

أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «مُروا أَوْلَادكُم بِالصَّلَاةِ وهم أَبنَاء سبع، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وهم أَبنَاء عشر، وَفرقُوا بَينهم فِي الْمضَاجِع».
هَذَا الحَدِيث تقدم بَيَانه فِي بَاب مَوَاقِيت الصَّلَاة وَاضحا، فَرَاجعه مِنْهُ، ثمَّ اعْلَم هُنَا أنَّ الرَّافعي ذكر هَذَا الحَدِيث دَلِيلا لوُجُوب التَّفْرِيق بَين الْأُم وَالْأَب، وَالْأُخْت وَالْأَخ فِي المضجع إِذا بلغا عشر سنينَ، وَلَا دلَالَة فِيه؛ فإنَّ مُقْتَضَى الحَديث التَّفْرِيق بَين الصِّبْيَان لاَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ آَبائهم وأبنْائِهم؛ فَإن كَان أخَذَ ذلِكَ مِنْ أَنَّهُ إِذا وَجَبَ التَّفْرِيقُ بَين الصبْيَانِ وَجَبَ بَيْنَهُم وَبَيْنَ آبائِهِم بِالْقِيَاسِ، وَالْفَرْقِ ظَاهر لما بَيْنَ الصِّبْيَانِ من الغرامة وعَدَمِ التَّحَفظِ، ولاسيما فِي أول النشأة، وَقيل: كَمَال الْعقل، وَقد بَلغُوا السِّنَّ الَّذِي يُمْكِنُ فِيه الْبلُوغ، واستيعاب الشَّهْوَة، وَلَا رادع لَهَا.

.الحديث السَّابِع عشر:

«أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ عَن الرجل يلقى أَخَاهُ أَو صديقه، أينحني لَهُ؟ قَالَ: لَا. قيل: أفيلتزمه ويقبّله؟ قَالَ: لَا. قيل: أفيأخذ بِيَدِهِ ويصافحه؟ قَالَ: نعم».
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه بِهَذَا اللَّفْظ من رِوَايَة أنس بن مَالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ثمَّ قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن. وَرَوَاهُ أَحْمد فِي مُسْنده وَلَفظه: «قَالَ رجل: يَا رَسُول الله، أحدُنا يلقى صديقه، ينحني لَهُ ويقبّله؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فيصافحه؟ قَالَ: نعم، إِن شَاءَ».
قلت: وَفِي حسنه نظر؛ لِأَن فِي إِسْنَاده: حَنْظَلَة بن عبيد الله الْبَصْرِيّ رَاوِي هَذَا الحَدِيث عَن أنس، وَلَيْسَ لَهُ فِي ت ق غير هَذَا الحَدِيث، وَقد ضَعَّفُوهُ ونسبوه إِلَى الِاخْتِلَاط، قَالَ أَحْمد: هُوَ ضَعِيف مُنكر الحَدِيث، يحدث بأعاجيب ومناكير، مِنْهَا: «قُلْنَا: أينحني بَعْضنَا لبَعض؟» وَقَالَ يَحْيَى بن سعيد: تركته عَلَى عمد وَكَانَ قد اخْتَلَط، وَنسبه ابْن معِين وَابْن حبَان إِلَى الِاخْتِلَاط أَيْضا، زَاد ابْن حبَان وَأَنه اخْتَلَط حَدِيثه الْقَدِيم بحَديثه الْأَخير. لكنه خَالف فَذكره فِي ثقاته أَيْضا، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه: هَذَا حَدِيث تفرد بِهِ حَنْظَلَة هَذَا، وَكَانَ قد اخْتَلَط، تَركه يَحْيَى الْقطَّان لاختلاطه. وَقَالَ عبد الْحق فِي أَحْكَامه: حَنْظَلَة هَذَا يروي مَنَاكِير، وَهَذَا الحَدِيث مِمَّا أنكر عَلَيْهِ وَكَانَ قد اخْتَلَط.
تَنْبِيه: وَقع لبَعض الأكابر فِي الحَدِيث وهم غَرِيب، فَذكره فِيمَا وَضعه عَلَى الْمِنْهَاج بِلَفْظ: «أيصافحُ بَعْضنُا بَعْضًا؟ قَالَ: نعم. قَالَ: أينحني بَعْضنَا لبَعض؟ قَالَ: لَا».
ثمَّ عزاهُ إِلَى صَحِيح مُسلم وَهُوَ فَاحش، ثمَّ نَاقض بعد ذَلِك بأسطر، فَقَالَ: وَفِي الحَدِيث: «يلتزمه ويقبّله؟ قَالَ: لَا» قَالَ: وَفِي إِسْنَاده مقَال. وَهَذَا عَجِيب؛ فَهَذَا طرف من الحَدِيث السالف الَّذِي عزاهُ أَولا إِلَى صَحِيح مُسلم فَتنبه لذَلِك!
وَذكر فِيهِ من الْآثَار أثرا وَاحِدًا، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه قَالَ: «يسْتَحبّ للْمَرْأَة أَن تنظر إِلَى الرجل؛ فَإِنَّهُ يعجبها مِنْهُ مَا يُعجبهُ مِنْهَا».
وَهَذَا الْأَثر لَا يحضرني من خرجه بعد الْبَحْث الشَّديد عَنهُ.

.باب النَّهْي عَن الْخطْبَة عَلَى الْخطْبَة وَالْأَمر بالنصح إِذا استنصح:

ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَرْبَعَة أَحَادِيثَ:

.الحديث الأول:

عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «لَا يخْطب الرجل عَلَى خطبةِ أَخِيه إِلَّا بِإِذْنِهِ».
هَذَا الحَدِيث أخرجه الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا من هَذَا الْوَجْه، وَاللَّفْظ لمُسلم إِلَّا أَنه قَالَ: «إِلَّا أَن يَأْذَن لَهُ» بدل «إِلَّا بِإِذْنِهِ» وَلَفظ البُخَارِيّ: «نهَى رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يَبِيع بَعضهم عَلَى بيع بعض، وَلَا يخْطب الرجل عَلَى خطْبَة أَخِيه حَتَّى يتْرك الْخَاطِب قبله أَو يَأْذَن لَهُ الْخَاطِب» وَرَوَاهُ مَالك فِي موطئِهِ كَلَفْظِ مُسلم، إِلَّا أَنه قَالَ: «حَتَّى يتْرك الْخَاطِب قبله أَو يَأْذَن لَهُ» وبرواية البُخَارِيّ يتَبَيَّن لَك غلط ابْن الْجَوْزِيّ فِي كِتَابه جَامع المسانيد حَيْثُ ادَّعَى- بعد أَن أخرج حَدِيث ابْن عمر: «لَا يخْطب عَلَى خطْبَة أَخِيه إِلَّا أَن يَأْذَن لَهُ»- أَن خَ، م أخرجه إِلَّا أَن م انْفَرد بِذكر الْإِذْن؛ فقد علمت أَنَّهَا فِي خَ أَيْضا فَتنبه لذَلِك، وَلِلْحَدِيثِ طرق أُخْرَى:-
إِحْدَاهَا: من طَرِيق أبي هُرَيْرَة- رَفعه-: «لَا يخْطب أحدكُم عَلَى خطْبَة أَخِيه» أخرجه الشَّيْخَانِ، زَاد خَ: «حَتَّى يتْرك أَو ينْكح» وَرَوَاهُ الشَّافِعِي بِلَفْظ: «نهَى أَن يخْطب الرجل عَلَى خطْبَة أَخِيه حَتَّى ينْكح أَو يتْرك».
وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي صَحِيحه بِلَفْظ: «لَا يستام الرجل عَلَى سوم أَخِيه حَتَّى يَشْتَرِي أَو يتْرك، وَلَا يخْطب عَلَى خطبَته حَتَّى ينْكح أَو يذر».
ثَانِيهَا: من طَرِيق عقبَة بن عَامر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «الْمُؤمن أَخُو الْمُؤمن؛ فَلَا يحل لِلْمُؤمنِ أَن يبْتَاع عَلَى بيع أَخِيه، وَلَا يخْطب عَلَى خطْبَة أَخِيه حَتَّى يذر» رَوَاهُ مُسلم.
ثَالِثهَا: من طَرِيق الْحسن عَن سَمُرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم نهَى أَن يخْطب الرجل عَلَى خطْبَة أَخِيه، أَو يبْتَاع عَلَى بَيْعه». رَوَاهُ أَحْمد فِي مُسْنده وَالْحسن عَن سَمُرَة قد علم مَا فِيهِ.

.الحديث الثَّانِي:

كَانَ أَحَق بالتقديم، لَكنا أخرناه سَهوا، قَالَ الرَّافِعِيّ: قَوْله- يَعْنِي: الْغَزالِيّ-: الْخطْبَة مُسْتَحبَّة يُمكن أَن يحْتَج لَهُ بِفعل النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا جَرَى عَلَيْهِ النَّاس، قد ثبتَتْ خطبَته عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي غير مَا مَوضِع مِنْهَا خطبَته أم سَلمَة، وإرسالها إِلَيْهِ تعتذر، وَمِنْهَا إرْسَاله إِلَى النَّجَاشِيّ بخطبته أم حَبِيبَة وتزويجها، وَمِنْهَا خطبَته عَائِشَة فِي صَحِيح خَ من حَدِيث مَرْوَان، وَقد سلف قَرِيبا من حَدِيث فَاطِمَة: «إِذا حللت فآذنيني» وَغير ذَلِك من الْأَحَادِيث.

.الحديث الثَّالِث:

حَدِيث فَاطِمَة بنت قيس وَذَلِكَ «أَن زَوجهَا طَلقهَا فَبت طَلاقهَا، فَأمرهَا عَلَيْهِ السَّلَام أَن تَعْتَد فِي بَيت ابْن أم مَكْتُوم وَقَالَ لَهَا: إِذا حللت فآذنيني. فَلَمَّا أحلّت أخْبرته أَن مُعَاوِيَة وَأَبا جَهْمٍ خطباها، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: أما مُعَاوِيَة فصعلوك لَا مَال لَهُ، وَأما أَبُو جهم فَلَا يضع عَصَاهُ عَلَى عَاتِقه، انكحي أُسَامَة».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه مُسلم فِي صَحِيحه مطولا، وَهُوَ حَدِيث طَوِيل مُشْتَمل عَلَى أَحْكَام عديدة، وَقد بسطتها فِي الْإِعْلَام بفوائد عُمْدَة الْأَحْكَام فَرَاجعهَا مِنْهُ؛ فَإِنَّهُ من الْمُهِمَّات، ثمَّ اعْلَم هُنَا أَن الرَّافِعِيّ ذكر هَذَا الحَدِيث دَلِيلا عَلَى أَنه إِذا لم يدر أَن الْخَاطِب أُجِيب أَو رُدَّ أَن الْخطْبَة تجوز، ثمَّ قَالَ: وَوجه الِاسْتِدْلَال أَنه خطبهَا لأسامة بعد خطْبَة غَيره لما لم يعلم أَنَّهَا أجابت أم ردَّتْ.
وَلَك أَن تَقول: فِي هَذَا الِاسْتِدْلَال نظر من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن قَوْله: «انكحي أُسَامَة» أَمر لَهَا بذلك لَا خطْبَة.
ثَانِيهَا: أَنه عَلَيْهِ السَّلَام علم أَنه لَا مصلحَة لَهَا فِي إِجَابَة من سمت أَنه خطبهَا، فأرشدها إِلَى الْمصلحَة لَهَا؛ لما جبل عَلَيْهِ السَّلَام من النصح لأمته، وَلَا يلْزم من ذَلِك الْمُدَّعِي، وَهُوَ جَوَاز الْخطْبَة فِي الْحَال الْمَذْكُور مُطلقًا؛ بل يلْزم جَوَاز النصح فِي مثل هَذِه الْحَالة.
تَنْبِيهَانِ: أَحدهمَا: حَكَى الرَّافِعِيّ خلافًا فِي أَن مُعَاوِيَة هَذَا الْخَاطِب، هَل هُوَ مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان أَو غَيره، ثمَّ قَالَ: وَالْمَشْهُور الأول.
قلت: لَا شكّ فِيهِ عندى؛ فَإِن فِي صَحِيح مُسلم التَّصْرِيح بِهِ؛ وَلَعَلَّ من قَالَ إِنَّه غَيره اسْتدلَّ بقوله: «أما مُعَاوِيَة فصعلوك» وَهَذِه حَالَته إِذْ ذَاك ثمَّ صَار بعد ملكا.
الثَّانِي: ذكر أَيْضا- أَعنِي: الرَّافِعِيّ- خلافًا فِي مَعْنَى قَوْله- عَن أبي جهم-: «لَا يضع عَصَاهُ عَن عَاتِقه» وَيرْفَع الْخلاف رِوَايَة مُسلم: «وَأَبُو جهم فضراب للنِّسَاء».

.الحديث الرَّابِع:

رُوِيَ أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «إِذا استنصح أحدكُم أَخَاهُ فلينصحه».
هَذَا الحَدِيث ذكره البُخَارِيّ فِي صَحِيحه فِي الْبيُوع تَعْلِيقا بِصِيغَة جزم، فَقَالَ: وَقَالَ النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: «إِذا استنصح أحدكُم أَخَاهُ فلينصح لَهُ» وأَسنده الأَئِمَة من طرق:
أَحدهَا: من طَرِيق جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: «دعوا النَّاس يرْزق الله بَعضهم من بعض؛ فَإِذا استنصح أحدكُم فلينصح» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي الْبيُوع من حَدِيث أبي حَمْزَة السكرِي، عَن عبد الْملك بن عُمَيْر، عَن أبي الزبير، عَن جَابر مَرْفُوعا بِهِ.
ثَانِيهَا: من طَرِيق حَكِيم بن أبي يزِيد، عَن أَبِيه، عَمَّن سمع رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: «دعوا النَّاس فليصب بَعضهم من بعض، وَإِذا استنصح رجل أَخَاهُ فلينصح لَهُ» رَوَاهُ الْحَاكِم أَبُو أَحْمد فِي كِتَابه من حَدِيث جرير، عَن عَطاء بن السَّائِب، عَن حَكِيم بِهِ، وَهُوَ حَدِيث فَرد غَرِيب، مَدَاره عَلَى عَطاء، وَلَيْسَ لأبي يزِيد سواهُ، وَجَرِير رَوَى عَن عَطاء بعد الِاخْتِلَاط كَمَا تقدم فِي الْأَحْدَاث، وَرَوَاهُ عبد بن حميد فِي مُسْنده وَالْحَاكِم أَبُو أَحْمد فِي كناه من حَدِيث جرير، عَن عَطاء أَيْضا، إِلَّا أَنَّهُمَا قَالَا عَن أَبِيه قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: «دعوا النَّاس يُصِيب بَعضهم من بعض؛ فَإِذا استنصح أحدكُم أَخَاهُ فلينصح لَهُ» وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه من هذَيْن الطَّرِيقَيْنِ ثمَّ اعْلَم أَن جمَاعَة رَوَوْهُ عَن عَطاء أحدهم: أَبُو عوَانَة، رَوَاهُ أَحْمد فِي مُسْنده عَن عَفَّان عَنهُ، عَن عَطاء عَن حَكِيم بن أبي يزِيد عَن أَبِيه عَمَّن سمع النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول... فَذكره بِلَفْظ الْحَاكِم الأول. قَالَ يَحْيَى بن معِين: سمع أَبُو عوَانَة من عَطاء فِي الْحَالين، وَلَا يحْتَج بِهِ.
ثانيهم: حَمَّاد بن زيد، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي أكبر معاجمه من حَدِيث خَالِد بن خِدَاش عَنهُ، عَن عَطاء، عَن حَكِيم بن أبي يزِيد عَن أَبِيه رَفعه: «دعوا النَّاس يُصيب بَعضهم من بعض، وَإِذا استنصحوا فانصحوهم» وخَالِد هَذَا: قَالَ أَبُو حَاتِم وَغَيره: صَدُوق. وَقَالَ ابْن الْمَدِينِيّ والسَّاجي: ضَعِيف. وَقَالَ يَحْيَى بن معِين: تفرد عَن حَمَّاد بِأَحَادِيث. وَقد تقدم فِي الْأَحْدَاث الِاخْتِلَاف فِي سَماع حَمَّاد من عَطاء؛ هَل هُوَ قبل الِاخْتِلَاط أم بعده؟
ثالثهم: حَمَّاد بن سَلمَة، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ أَيْضا فِي أكبر معاجمه من حَدِيث عَلّي بن الْجَعْد عَنهُ بِمثلِهِ، إِلَّا أَنه قَالَ: «يرْزق» بدل «يُصِيب» وَقَالَ: «وَإِذا استنصح أحدكُم أَخَاهُ فلينصحه» وَرَوَاهُ الْخَطِيب فِي غنية الملتمس فِي أيضاح الملتبس من طرق عَن حَمَّاد، وَلم يتَبَيَّن أهوَ ابْن زيد أَو ابْن سلمةَ.
وَأخرجه من حَدِيث جُنَادَة عَن حَمَّاد عَن عَطاء بِهِ بِلَفْظ «دعوا النَّاس يعِيش بَعضهم من بعض؛ فَإِذا استنصح أحدكُم أَخَاهُ فلينصح لَهُ» وَمن حَدِيث يَحْيَى الْحمانِي عَن حَمَّاد بِهِ، وَلَفظه كَلَفْظِ الرَّافِعِيّ سَوَاء، وَمن حَدِيث مُوسَى بن إِسْمَاعِيل، عَن حَمَّاد بِهِ، وَقَالَ: «فلينصح لَهُ» بدل «فلينصحه».
رابعهم: إِسْمَاعِيل ابْن علية، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي أكبر معاجمه من حَدِيث عَنهُ بِهِ، وَلَفظه: «دعوا النَّاس فليرزق الله بَعضهم من بعض، وَإِذا استنصح الرجل الرجل فلينصح لَهُ».
خامسهم: همام بن يَحْيَى، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ أَيْضا فِيهِ بِهِ، وَلَفظه: «دعوا النَّاس يرْزق الله بَعضهم من بعض، وَإِذا اسْتَشَارَ أحدكُم أَخَاهُ فلينصحه» وَرَوَاهُ الْخَطِيب فِي غنية الملتمس من هَذِه الطَّرِيق بِلَفْظ: «دعوا النَّاس يُصِيب بَعضهم من بعض» وَالْبَاقِي بِمثلِهِ.
سادسهم: مَنْصُور بن أبي الْأسود، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ أَيْضا من حَدِيثه عَنهُ بِهِ وَلَفظه: «دعوا النَّاس فليصب بَعضهم من بعض، وَإِذا استنصح الرجل أَخَاهُ فلينصح لَهُ».
سابعهم: روح بن الْقَاسِم، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ أَيْضا من حَدِيثه عَنهُ بِنَحْوِهِ.
ثامنهم: عَلّي بن عَاصِم رَوَاهُ الْخَطِيب فِي الْكتاب السالف ذكره، من حَدِيثه عَنهُ بِهِ بِلَفْظ طَرِيق همام سَوَاء.
تاسعهم: وَالِد عبد الصَّمد، قَالَ الإِمَام أَحْمد: ثَنَا عبد الصَّمد، ثَنَا أبي، ثَنَا عَطاء بن السَّائِب، قَالَ: حَدثنِي حَكِيم بن أبي يزِيد، عَن أَبِيه قَالَ: حَدثنِي أبي أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «دعوا النَّاس يُصِيب بَعضهم من بعض...» الحَدِيث، فَهَؤُلَاءِ عشرَة أنفس رَوَوْهُ عَنهُ، وَرَوَاهُ- أَعنِي: عَطاء- مرّة عَن أَبِيه، عَن جده قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: «دعوا النَّاس يُصِيب بَعضهم من بعض، وَإِذا استنصحك أَخُوك فانصح لَهُ».
ذكره أَبُو نعيم الْأَصْبَهَانِيّ فِي معرفَة الصَّحَابَة فِي تَرْجَمَة مَالك، وَقَالَ: هُوَ أَبُو السَّائِب الثَّقَفِيّ جد عَطاء.
قلت: وَهَذَا طَرِيق غَرِيب.
الطَّرِيق الثَّالِث: من أصل طرق الحَدِيث من حَدِيث ميسرَة، وَهُوَ أَبُو طيبَة الْحجام «أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم دخل السُّوق فَجَلَسَ فِي البزازين فَجعل يعرض رجلا مَتَاعا لَهُ، فَقَالَ رجل للْمُشْتَرِي: هَذَا لَا يساوى بِمَا يسام. قَالَ: فَأخذ النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم بتلابيبه فَقَالَ: دع النَّاس فليصب بَعضهم من بعض، وَإِذا اسْتَشَارَ أَخَاهُ فلينصح أَخَاهُ!» ذكره أَبُو نعيم الْأَصْبَهَانِيّ أَيْضا فِي تَرْجَمَة ميسرَة هَذَا.
الطَّرِيق الرَّابِع: وَهُوَ أَحَق بالتقديم مَا أخرجه مُسلم فِي صَحِيحه من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «حق الْمُؤمن عَلى الْمُؤمن سِتَّة...» فَذكرهَا، وفيهَا: «وَإِذا استنصحك فانصح لَهُ».
وَسَيَأْتِي بِطُولِهِ فِي أثْنَاء كتاب السّير، حَيْثُ ذكره الرَّافِعِيّ- إِن شَاءَ الله.
ويعضد مَا سلف من الطّرق أَيْضا حَدِيث جرير بن عبد الله البَجلِيّ قَالَ: «بَايَعت رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَى السّمع وَالطَّاعَة- فلقنني: فِيمَا استطعتَ- والنصح لكل مُسلم» أخرجه الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا وَحَدِيث تَمِيم الدَّارِيّ- رَفعه-: «الدَّين النَّصِيحَة» رَوَاهُ مُسلم وَهُوَ من أَفْرَاده؛ بل لَيْسَ لَهُ فِي صَحِيحه عَنهُ سواهُ.